الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:قوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور}.جَعَلَ هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى خَلَقَ، هكذا عِبَارةُ النحويين، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ، إلاَّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال: والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلض معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئًا، أو نَقْلهِ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلُ التَّصْييرِ كإنشاء شيء أو تَصْييرِ شيء شيئًا، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان، ومن ذلك {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189]، {وَجَعَلَ الظلمات والنور}؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامَ المُتَكَاثِفَةِ، والنُّور مِنَ النَّارِ.وقال الطَّبرِيُّ: جَعَلَ هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام، كما تقول: جَعَلْتُ أفعل كذا.فكأنه قال: جَعَلَ إظلامها وإنارتها، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان، ولكونها عند الزمخشري لَيْست بمعنى خَلَقَ فسَّرها هُنا بمعنى أحدث وأنشأ.وكذا الراغب جعلها بمعنى أوْجَدَ.ثم إنَّ أبَا حيَّان اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا اسْتَطْرَدَ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثًا} [الزخرف: 19].فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صَيَّر في قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة} [الزخرف: 19] لا يصحُّ؛ لأنهم لم يُصَيِّروهم إناثًا وإنما بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى.قال شهابُ الدين: ليس المُرَادُ بالتصيير بالفعل، بل المُراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد ظهر الفرقُ بين تخصيص السَّمواتِ والأرض بالخَلْقِ، والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري.فصل:قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه:الأول: بمعنى خلق قال تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة}، وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} [فصلت: 10]، وقوله: {جَعَلَ الليل والنهار} [الفرقان: 62].والثاني: بمعنى بعث قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرا} [الفرقان: 62].والثالث: بمعنى قدره قال تعالى: {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا} [الزمر: 8] وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاَّ} [الزخرف: 19] وقوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا}[فصلت: 9] أي تقولون.الرابع: بمعنى بَيّن قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ} [الزخرف: 3] أي: بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ.الخامس: بمعنى صَيَّرَ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} [الإسراء: 46] أي: صيرنا، وقوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19]، وقوله: {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} [النمل: 61]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِم} [يس: 8].قوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ}.ثُمَّ هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ، وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله: {الحمدُ لله}، وإمَّا على قوله: {خَلَقَ السَّمواتِ}.قال الزمخشري: فإن فما معنى ثم؟ قلت: استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وكذلك {ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ} استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّه مُحْييهمْ، ومُميتُهُمْ وباعثهم.وقال ابن عطية: ثُمَّ دَالَّةٌ على قُبْحِ فَعْلِ الذين كَفَرُوا، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنُعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره.قال أبو حيَّان: ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح؛ لأنها لم تُوضع لذلك، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من ثُمَّ، ولم أعلم أحدًا من النحويين ذكر ذلك، بل ثمَّ هنا للمُهْلَةٍ في الزَّمَانِ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً على جملةٍ اسميةٍ يعني على {الحَمْدُ للِّهِ}.ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه أن تكون معطوفةً على خَلَقَ لأنَّ خَلَقَ صِلَةٌ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها، ولكن ليس ثم رابطٌ يعودٌ منها على الموصول.ثُمَّ قال: إلاَّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم: أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري وهو قليلٌ جدًا لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ.قال شهابُ الدين: إنَّ الزمخشري إنَّما يريدٌ العَطْفَ بثم لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد صَرَّحَ به هو، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط؟.وكيفَ يتخيل كونها لِلمُهْلَة في الزمان كما أبو حيان.قوله: {بربِّهمْ} يجوز أن يتعلَّق بـ {كَفَرُوا}، فيكون {يَعْدلُون} وقدِّم للفَوَاصِلِ، وفي الباء حينئذٍ احتمالان:أحدهما: أن تكون بمعنى عن و{يَعْدلون} مِنَ العدول أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره.والثاني: أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين الشَّيْئَيْنِ، أي: ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ بربَّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ، فيكون المَفْعُولُ محذوفًا.وقيل معنى الآية كقول القائل: أنْعَمْتُ عليكم بكذا، وتَفَصَّلْتُ عليكم بكذا، ثُم تكفرون نعمتي. اهـ. باختصار..تفسير الآية رقم (2): قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما قرر سبحانه أنه هو الذي خلق السماوات والأرض اللتين منهما وفيهما الأصنام والكواكب والأجرام التي عنها النور والظلمة، فثبت وجوده على ما هو عليه من الإحاطة بأوصاف الكمال التي أثبتها الحمد، فبطلت جميع مذاهبهم، فعجب منهم بكونهم يعدلون به غيره، أتبع ذلك اختصاصه بخلق هذا النوع البشري، وهو- مع ما فيه من الشواهد له بالاختصاص بالحمد والرد على المُطرِين لعيسى عليه السلام المخلوق من الطين بخلق أبيهم آدم عليه السلام- مؤكدٌ لإبطال مذهب الثنوية، وذلك أنهم يقولون: إن النار خالق الخير، والظلمة خالقة الشر، فإذا ثبت أنه الخالق لنوع الآدميين الذين منهم الخير والشر من شيء واحد، وهو الطين الذي ولد منه المني الذي جعل منه الأعضاء المختلفة في اللون والصورة والشكل من القلب وغيره من الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف، والرباطات والأوتار، ثبت أن خالق أوصافهم من الخير والشر واحد قدير عليم، لأن توليد الصفات المختلفة من المادة المتشابهة لا يكون إلا ومبدعه واحد مختار، لا اثنان، وهو الذي خلق الأرض التي منها أصلهم، وهو الله الذي اختص بالحمد فقال: {هو الذي خلقكم} ولما كانوا يستبعدون البعث لصيرورة الأموات ترابًا واختلاط تراب الكل بعضه ببعض وبتراب الأرض، فيتعذر التمييز، وكان تمييز الطين لشدة اختلاط أجزائه بالماء أعسر من تميز التراب قال: {من طين} أي فميز طينة كل منكم- مع أن منكم الأسود والأبيض وغير ذلك والشديد وغيره- من طينة الآخر بعد أن جعلها ماء ثخينًا له قوة الدفق ونماها إلى حيث شاء من الكبر.ولما كان من المعلوم أن ما كانا من شيء واحد كانت مدة بقائهما واحدة، نبه بأداة التراخي على كمال قدرته واختياره من المفاوتة بين الآجال فقال: {ثم قضى} أي حكم حكمًا تامًا وبتّ وأوجد {أجلًا} أي وقتًا مضروبًا لانقضاء العمر وقطع التأخر لكل واحد منكم خيرًا كان أو شريرًا، قويًا كان أو ضعيفًا، من أجل يأجل أجولًا- إذا تأخر، وجعل تلك الآجال- مع كونها متفاوتة- متقاربة لا مزية لأحد منكم بصفة على آخر بصفة مغائرة لها، وفاعل ذلك لا يكون إلا واحدًا فاعلًا باختيار.ولما ذكر الأجل الأول الذي هو الإبداع من الطين إشارة إلى ما فرع منه من الآجال المتفاوتة، ذكر الأجل الآخر الجامع للكل، لأن ذكر البداية يستدعي ذكر النهاية، فقال مشيرًا إلى تعظيمه بالاستئناف والتنكير: {وأجل} أي عظيم {مسمى} أي لكم أجمعين لانقضاء البرزخ للإعادة التي هي في مجاري عاداتكم أهون من الابتداء لمجازاتكم والحكم بينكم الذي هو محط حكمته ومظهر نعمته ونقمته في وقت واحد، يتساوى فيه الكل، وستر علمه عن الكل كما أشار إليه بالتنكير، وهذا لا يصح أن يكون إلا لواحد، لا متعدد، وإلا لتباينت المقادير والإرادات وانشق كل مقدور في صنف لا يتعداه، وإلا لعلا بعضهم على بعض وانهتكت أسرار البعض بالبعض- سبحان الله وتعالى عما يصفون، وغير السياق إلى الاسمية إشارة إلى اختصاصه بعلمه وأنه ثابت لا شك فيه! ويؤكده إثبات قوله: {عنده} في هذه الجملة وحذفها من الأولى هنا وفي قوله: {ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمى} [الأنعام: 60]، وقدم المبتدأ مع تنكيره- والأصل تأخيره- إفادة لتعظيمه.ولما كان في هذا البيان لوحدانيته وتمام قدرته لاسيما على البعث الذي هو مقصود حكمته ما يبعد معه الشك في الإعادة، أشار إليه بأداة التراخي وصيغة الافتعال فقال: {ثم أنتم تمترون} أي تكلفون أنفسكم الشك في كل من الوحدانية والإعادة التي هي أهون على مجاري عاداتكم من الابتداء بتقليد الآباء، والركون إلى مجرد الهوى والإعراض عن الأدلة التي هي أظهر من ساطع الضياء، وهذه الآية نظير آية الروم {أولم يتفكروا في أنفسهم} [الروم: 8] أي كيف خلقهم الله من طين، وسلط بعضهم على بعض بالظلم والعدوان، وجعل لهم آجالًا فاوت بينها وساوى في ذلك بين الأصل والفرع، فأنتج هذا أنه ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، أي بسبب إقامة العدل في جميع ما وقع بينكم من الاختلاف كما هو شأن كل مالك في عبيده {وأجل مسمى}- الآية.وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما بين سبحانه وتعالى حال المتقدمين وهو الصراط المستقيم، وأوضح ما يظهر الحذر من جانبي الأخذ والترك، وبين حال من تنكب عنه ممن كان قد يلمحه، وهم اليهود والنصارى، وكونهم لم يلتزموا الوفاء به وحادوا عما أنهج لهم، وانقضى أمر الفريقين، ذمًا لحالهم وبيانًا لنقضهم وتحذيرًا للمتقين أن يصيبهم ما أصابهم، وختم ذلك ببيان حال المؤقنين في القيامة يوم ينفع الصادقين صدقهم، وقد كان انجرّ مع ذلك ذكر مشركي العرب وصممهم عن الداعي وعماهم عن الآيات، فكانوا أشبه بالبهائم منهم بالأناسي، أعقب ذلك تعالى بالإشارة إلى طائفة مالت إلى النظر والاعتبار، فلم توفق لإصابة الحق وقصرت عن الاستضاءة بأنوار الهدى.وليسوا ممن يرجع إلى شريعة قد حرفت وغيرت، بل هم في صورة من هَمَّ، أن يهتدي بهدى الفطرة ويستدل بما بسط الله تعالى في المخلوقات فلم يمعن النظر ولم يوفق فضلَّ وهم المجوس وسائر الثنوية ممن كان قصارى أمره نسبة الفعل إلى النور والإظلام، ولم يكن تقدم لهؤلاء ذكر ولا إخبار بحال فقال تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} فبدأ تعالى بذكر خلق السماوات والأرض التي عنها وجد النور والظلمة، إذ الظلمة ظلال هذه الأجرام، والنور عن أجرام نيرة محمولة فيها وهي الشمس والقمر والنجوم، فكان الكلام: الحمد لله الذي أوضح الأمر لمن اعتبر واستبصر، فعلم أن وجود النور والظلمة متوقف بحكم السببية التي شاءها تعالى على وجود أجرام السماوات والأرض وما أودع فيها، ومع بيان الأمر في ذلك حاد عنه من عمي عن الاستبصار {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} [الأنعام: 1] وقوله تعالى: {هو الذي خلقكم من طين} [الأنعام: 2] مما يزيد هذا المعنى وضوحًا، فإنه تعالى ذكر أصلنا والمادة التي عنها أوجدنا، كما ذكر للنور والظلمة ما هو كالمادة، وهو وجود السماوات والأرض، وأشعر لفظ {جعل} بتوقف الوجود بحسب المشيئة على ما ذكر، وكان قد قيل: أيّ فرق بين وجود النور والظلمة عن وجود السماوات والأرض وبين وجودكم عن الطين حتى يقع امتراء فيه عن نسبة الإيجاد إلى النور والظلمة، وهما لم يوجدا إلا بعد مادة أو سبب كما طرأ في إيجادكم؟ فالأمر في ذلك أوضح شيء {ثم أنتم تمترون} [الأنعام: 2] ثم مرت السورة من أولها إلى آخرها منبهة على بسط الدلالات في الموجودات مع التنبيه على أن ذلك لا يصل إلى استثمار فائدته إلا من هيئ بحسب السابقة فقال تعالى: {إنما يستجيب الذين يسمعون} [الأنعام: 36] ثم قال تعالى: {والموتى يبعثهم الله} [الأنعام: 36]، وهو- والله أعلم- من نمط {أو من كان ميتًا فأحييناه}، أجمل هنا ثم فسر بعد في السورة بعينها، والمراد أن من الخلق من جعله الله سامعًا مطيعًا متيقظًا معتبرًا بأول وهلة، وقد أري المثال سبحانه وتعالى في ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} [الأنعام: 75]، فكأنه يقول لعباده المتقين: تعالوا فانهجوا طريق الاعتبار ملة أبيكم إبراهيم كيف نظر عليه السلام نظر السامع المتيقظ! فلم يعرج في أول نظره على ما سبب وجوده بيِّنٌ فيحتاج فيه إلى غرض في الكواكب والقمر والشمس، بل نظر فيما عنه صدر النور، لا في النور، فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا، فتأمل كونه عليه السلام لم يطول النظر بالتفات النور، ثم كان يرجع إلى اعتبار الجرم الذي عنه النور، بل لما رأى النور عن أجرام سماوية تأمل تلك الأجرام وما قام بها من الصفات، فرأى الأفول والطلوع والانتقال والتقلب فقال: هذا لا يليق بالربوبية لأنها صفات حدوث، ثم رقى النظر إلى القمر والشمس فرأى ذلك الحكم جاريًا فيهما فحكم بأن وراءها مدبرًا لها يتنزه عن الانتقال والغيبة والأفول فقال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} [الأنعام: 79] وخص عليه السلام ذكر هذين لحملهما أجرام النور وسببيتهما في وجود الظلمة، ثم تأمل هذا النظر منه عليه السلام وكيف خص بالاعتبار أشرف الموجودين وأعلاهما، فكان في ذلك وجهان من الحكمة: أحدهما علو النظر ونفوذ البصيرة في اعتبار الأشرف الذي إذا بان منه الأمر فهو فيما سواه أبين، فجمع بين قرب التناول وعلو التهدي، والوجه الثاني التناسب بين حال الناظر والمنظور فيه والتناول والجري على الفطرة العلية وهو من قبيل أخذ نبينا صلى الله عليه وسلم اللبن حين عرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن، فقيل له: اخترت الفطرة! فكان قد قيل: هذا النظر والاعتبار بالهام، لا نظر من أخلد إلى الأرض فعمد الضياء والظلام، وينبغي أن يعتمد في قصة إبراهيم عليه السلام في هذا الاعتبار أنه صلى الله عليه وسلم في قوله: {هذا ربي} إنما قصد قطع حجة من عبد شيئًا من ذلك إذ كان دين قومه، فبسط لهم الاعتبار والدلالة، وأخذ يعرض ما قد تنزه قدرُه عن الميل إليه، فهو كما يقول المناظر لمن يناظره: هب أن هذا على ما تقول.
|